الإستعاذة بالله تعالى من الشرور كلها، المعوذتان و فضلهما
- أحمد صديق
- 23 يوليو 2021
- 11 دقيقة قراءة
في حديث قدسي، الاستعاذة العامة بالله تعالى، من كل شر وقد وعد سبحانه أنها مستجابة لأوليائه. وهذا الحديث القدسي الذي حلقاته متكاملة، رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء احب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه". ومحاولة لشرح هذا الحديث وكما يستنتج من أقوال ابن تيمية وابن عثيمين وغيرهما: من ناصب العداء وليا لله – استهزاء به أومفتريا عليه أو غير ذلك – أعلم الله وأخبر بأنه سبحانه محارب له، فهو تبارك وتعالى يتولَّى الدفاع عن أوليائه، ولا طاقة للعبد بالمواجهة مع الخالق الجبَّار. وما وليُّ الله إلا من آمن واتقى ربه، مواظبا على طاعته، مخلصا العمل له وهو متبع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأولى درجات الولاية الالتزام بما فرضه الله، والدرجة الثانية الاجتهاد في النوافل، من صلاة وصيام وتلاوة القرآن وغير ذلك، وهكذا يحظى الولي بمحبة الله له، وعندئذ لا يصدر عنه إلا ما يرضي مولاه: لا يسمع إلا ما يَحِلّ استماعه، وإن نظر لم ينظر إلى ما حرّم الله، وإن بطش لم يبطش إلا لله، ولا مبادرة ولا تحرّك له إلا بأمر الله، وما سأل الولي ربه أعطاه إياه، وبه حصول المطلوب، وباستعاذته مما يخاف، الله ضامن له النجاة. فهذا الولي المقرّب المحبوب، دعاؤه مستجاب.
وفي حديث رواه النسائي والطبراني- وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وله شاهد عند أحمد – ما فيه الاستعاذة بالله من الشرور مجتمعة : " أعوذ بكلمات الله التامات (هي القرآن كما قال النووي، أو أقضيته – جمع قضاء – وما وعد به، كما قال بن حجر) التي لا يجاوزهن ( اي لا يتعداهنّ) بَرٌّ ( أي تقيّ محسن) وفاجر ( أي مائل عن الحق) من شر ما خلق وذرأ ( من خلق الذّرية) وبَرَأَ (نسبة إلى البارئ سبحانه، الذي خلق بدون مثال سابق) ومن شر ما ينزل من السماء (كالنيازك والصواعق وغيرها) ومن شر ما يعرج فيها ( اي من الأعمال السيئة التي توجب العقوبة)، ومن شر ما ذرأ في الأرض ( ما على ظهرها كالوحوش وغيرها) ومن شر ما يخرج منها (كالبراكين والهوام وغيرها) ومن شر فتن الليل والنهار (كالأرق والاضطرابات النفسية وغيرها) ومن شر كل طارق ( من يُبَلّغ ما يسوء أو ما لا يُثلج الصدر) إلا طارقا يطرق بخير ( من يبلّغ ما يسُرّ أو ما يريح) يا رحمن"( اي مَنْ رحمته عامة في الدنيا).
والملاحظ من خلال شاهد هذا الحديث، كما أخرجه أحمد، أن الاستعاذة العامة فيه، ناجعة لدفع مردة الشياطين: سأل رجل عبد الرحمان بن خنيس: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كادته الشياطين؟ قال : جاءت الشياطين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأودية، وتحدّرت عليه من الجبال، وفيهم شيطان معه شعلة من نار، يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرعب، وجاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد: قل، قال: "ما أقول" قال : قل: " أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهنّ بر ولا فاجر" فطفأت نار الشياطين، وهزمهم الله تعالى (صححه الألباني في تخريج شرح الطحاوية).
وللتبصير والتبصرة كذلك حديث آخر، في صحيح مسلم، وهو بدوره يتضمن الاستعاذة بالله ومن الشرور كلها، وذلك بصيغة موجزة وبالغة الدلالة: " من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، ولم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك".
وفي القرآن الكريم، الاستعاذة بالله تعالى من الشرور كلها، تتضمّنها المعوّذتان: ففي سورة الفلق أولا : " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)". وفي تفسير القرطبي : " الْفَلَق" له حسب العلماء معاني مختلفة ( سجن في جهنم، بيت في جهنم، اسم من أسماء جهنم، واد في جهنم، شجرة في النار، جُبٌّ في النار، ما اطمأن من الأرض، الجبال والصخور تتشقق بالمياه، التفليق بين الجبال والصخور لأنها تتشقق بالمياه، التفليق بين الجبال والصخور لأنها تتشقق من خوف الله عز وجل). والقول المتداول أكثر "الْفَلَق " = الصبح ( كما قال قتادة وابن عباس) وقيل: الرحم تنفلق بالحيوان أو إنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان، والصبح والحب والنوى، وكل شيء من نبات وغيره (قال الضحاك: الفلق الخلق كله). ومن حيث الاشتقاق الفلق الشق والتفليق منه. قال الله تعالى: " فَالِقُ الْإِصْبَاحِ " ( من الآية 96 الأنعام) و " فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى " ( من الآية 95 نفس السورة). قوله تعالى : " مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ "، قيل: هو ابليس وذريته. وقيل : جهنم. وقيل : هو عام، أي من شر كل ذي شر خلقه الله عز وجل. " وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ " اختلف فيه، فقيل: هو الليل. والغسق: أول ظلمة الليل ( قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم) و " وَقَبَ " على هذا التفسير: أَظلمَ قاله ابن عباس ، والضحاك: دخل، قتادة : ذهبَ، يمان بن رئاب: سكن . وقيل : نزل ، يقال: وقب العذاب على الكافرين: نزل. وقال الزجاج: قيل الليل غاسق لأنه أبرد من النهار. والغاسق: البارد. والغسق: البرد، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشر على العبث والفساد. وقيل الغاسق: الثريا، وذلك أنها إذا سقطت كثرت الاسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك ( قول عبد الرحمان بن زيد)، وقيل : هو الشمس إذا غربت ( قاله ابن شهاب). وقيل: هو القمر.، قال القتبي: إذا وقب القمر، إذا دخل في سَاهُورِه ( اي في دَارَتِهِ)، وهو كالغلاف له، وذلك إذا خسف به. وكل شيء اسود فهو غسق. وقال قتادة : " إِذَا وَقَبَ " إذا غاب وهو أصح، لأن في الترمذي عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر، فقال : " يا عائشة، استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب"، قال أبو عيس: هذا حديث حسن صحيح. وقيل: الغاسق: الحية إذا لدغت، وكأن الغاسق نابها، لأن السم يغسق منه، أي يسيل. ووقب نابها: إذا دخل في اللديغ،" وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ " يعني الساحرات اللائي يَنْفُثْنَ في عُقد الخيط حين يَرْقِينَ عليها، " وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ " والحسد تمنّي زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها. والحسد أول ذنب عُصِي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فحسدَ ابليس آدم، وحسدَ قابيلُ هابيلَ، والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون.
وفي سورة الناس ثانيا: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) ". في نفس التفسير، للقرطبي: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " اي مالكهم ومصلح أمورهم، وإنما ذكر أنه رب الناس، وإن كان ربا لجميع الخلق لأمرين: أحدهما : لأن الناس مُعَظَّمون، فأَعْلَم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا، الثاني: لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم، فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم، وإنما قال : " مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ " لأن في الناس ملوكا يذكِّر أنه مَلِكُهُم، وفي الناس من يعبد غيره، فذكر أنه إلههم ومعبودهم، وأنه الذي يجب أن يُستعاذ به ويُلجأ إليه، دون الملوك والعظماء، " مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ"، يعني: من شر الشيطان، والمعنى: من شر ذي الوسواس (والوسوسة : حديث النفس). ووصف بالخناس لأنه كثير الاختفاء، ومنه قوله تعالى : " فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ" الآية 15 التكوير، يعني النجوم، لاختفائها بعد ظهورها. وقيل : لأنه يَخْنِسُ إذا ذكر العبدُ الله، أي يتأخَّر. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان واضع خَطْمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خَنَسَ، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس"، وقيل سمي خناسا لأنه يرجع إذا غفل العبد عن ذكر الله، " الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ "، ووسوسته كما قيل، هو الدعوة لطاعته بكلام خفيّ يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوته، وإن الشيطان، كما قيل كذلك، متشعب في الجسد أي في كل عضو منه شعبة. وفي الصحيح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" ( رواه مسلم وأحمد وأبو داود)، " مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ "، قال الحسن: هما شيطانان، أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وفي سورة الأنعام، من الآية 112: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ"، وذهب قوم إلى أن الناس هنا يراد به الجن، سموا ناسا كما سموا رجالا في قوله : " وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ " (من الآية 6 الجن) وقوما ونفرا. فعلى هذا يكون "وَالنَّاسِ" عطفا على " الْجِنَّةِ " ويكون التكرير لاختلاف اللفظين. وقيل: الوسواس هو الشيطان. وقوله " مِنَ الْجِنَّةِ " بيان أنه من الجن " وَالنَّاسِ " معطوف على الوسواس، والمعنى: قل أعوذ برب الناس من شر الوسواس الذي هو من الجنة، ومن شر الناس. فعلى هذا أُمِر بأن يستعيذ من شر الإنس والجن. وقيل: إن إبليس يوسوس في صدور الجن، كما يوسوس في صدور الناس. فعلى هذا يكون " فِي صُدُورِ النَّاسِ " عاما في الجميع. و " مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ " بيان لما يوسوس في صدره. وقيل : معنى " مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ " أي الوسوسة التي تكون من الجنة والناس. وهو حديث النفس. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به" ( رواه أبو هريرة واخرجه مسلم).
وفي التفاسير ومنها تفسير القرطبي، التذكير أنه ثبت في الصحيحين(والمعاني بين قوسين) ، من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم، سحره يهودي من يهود بني زُرَيْقْ، يقال له لَبِيد بن الأعصم، حتى يُخيَّل إليه أنه كان يفعل الشيء ولا يفعله، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث – في غير الصحيح سنة – ثم قال : " يا عائشة أُشْعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند راسي للذي عند رجلي: ما شأن الرجل؟ قال: مطبوب ( أي مسحور)، قال: ومن طَبّهُ؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في ماذا؟ قال: في مُشْط (أي أسنان ما يُمشط به) ومُشاطة ( أي ما يخرج من الشعر) وجُفِّ (أي وعاء طلع النخل/ غشاؤه) طَلْعَة ( أي قطعة من طلع النخل وهو أول ما يظهر من ثمره، قبل مرحلة البلح) ذَكَرٍ، تحت راعوفة ( اي حجر يترك في البئر عند الحفر يقول عليه المستقي) في بئر ذي أَوْران"، فجاء البئر واستخرجه، انتهى الصحيح. وفي رواية ابن عباس: " أما شَعَرْتِ يا عائشة أن الله تعالى أخبرني بدائي"، ثم بعث عليا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نُقاعة الحناء (اي ماء ممزوج بحناء)، ثم رفعوا الصخرة وهي الراعوفة، صخرة تترك أسفل البئر يقوم عليها المائح ( أي المستقي)، وأخرجوا الجف، فإذا مشاطة رأس إنسان، واسنان من مشط، وإذا وتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فأنزل الله تعالى هاتين السورتين (المعوذتين) وهما إحدى عشر آية على عدد تلك العقد، وأمر ان يتعوذ بهما، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد النبي صلى الله وعليه وسلم خِفَّة، حتى انحلت العقدة الأخيرة، فكأنما أُنْشِطَ من عُقال، وقال : ليس به بأس، وجعل جبريل يرقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : " باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر حاسد وعين، والله يشفيك" فقالوا: يا رسول الله، ألا نقتل الخبيث، فقال : " أما أنا فقد شفاني الله، واكره أن اثير على الناس شرا". وذكر القشيري في تفسيره أنه ورد في الصحاح: أن غلاما من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فدَسَّت إليه اليهود، ولم يزالوا به حتى أخذ مشاطة راس النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عدّة من أسنان مشطه فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وكان الذي تولى ذلك لبيد بن الاعصم اليهودي. وذُكر نحو ما تقدم عن ابن عباس.
وجدير بالإشارة كذلك، إلى ما روى النسائي عن عبد الله قال: اصابنا طَشٌّ ( أي مطر ضعيف ) وظُلمة، فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج، ثم ذكر كلاما معناه: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليصلي بنا)، فقال : "قل"، فقلت: ما اقول؟ قال: " قل هو الله أحد و المعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثا، يكفيك كل شيء"، وعن عقبة بن عامر الجُهَنِي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل" قلت: ما اقول؟ قال:" قل: قل هو الله أحد، قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس" فقرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال : " لم يتعوّذ الناس بمثلهن" أو "لا يتعوذ الناس بمثلهن". وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمعوّذتين ويَنْفث، فلما اشتدّ وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها. ( النفث = النفخ ليس معه ريق).
وروى البخاري، عن عائشة كذلك، رضي الله عنها ، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفّيه ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بها ما استطاع من جسده، يبدأ بها على رأسه ووجهه، وما قبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: بينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجُحْفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه يتعوذ بالمعوذتين ويقول: يا عقبة تعوّذ بهما، فما تعوّذ متعوذ بمثلها ( رواه أبو داود والنسائي). والجحفة والأبواء موقعان في الطريق بين مكة والمدينة.
وهكذا للمعوذتين- كما لسورة الإخلاص- خاصيات تجعلها بإذن الله تعالى، تكلأ المؤمن وتدفع عنه الشرور كلها. كما هو مؤكد في مبحث سابق، في سورة الإخلاص توحيد الالوهية، والله سبحانه هو المقصود بالعبادة والدعاء . وللتذكير ومزيدا في التبيين، في سورة الفلق العبد يلوذ بربه الذي هو المتصرف بدون منازع في الأمور، الفالق للإصباح وللحَبِّ والنوى، يلوذ به سبحانه، من شر المخلوقات، ومن شر ما في الليل وهو يغشى الناس وتنتشر السواحر اللواتي يعقدن عقدا في خيوط، وينفخن فيها – نفثا شيطانا- لإلحاق الضرر بعباد الله، ومن شر الراغب في زوال النعمة من غيره، ولا يرضى بما قسمه الله تعالى، وفي هذا الإطار يندرج الحاسد العاين، وطبعه شرير ونفسه خبيثة. وبإيجاز مرة أخرى، في سورة الناس اللجوء إلى المدبِّر، الواحد الأحد، لشؤون الناس، وهم مخصَّصُّون بالذكر في السورة، تكريما لهم، والله هو رب كل شيء ، والمستعاذ منه شياطين الجن والإنس على حد سواء. وإن الشيطان، المستعاذ منه، هو أصل الشرور كلها، وهو المتواري المختفى إذا ذَكر العبد ربه يصدق وإخلاص، وإذا غفل العبد عن الله تعالى عاد الشيطان موسوسا له، فملقيا الاوهام في القلوب بطريقة خفية من غير سماع صوت.
ويا حسرة على العباد الذين، بدل استعاذتهم بالله من الشيطان ومن الشرور كلها، كانوا يستجيرون بالجن فزادوهم إثما ذعرا، وازدادت الجن عليهم جرأة، وذلك كما في تفسير ابن كثير لقول الله تعالى، على لسان الجن الذين استعموا القرآن فآمنوا به وانقادوا له: " وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) " ( الجن) ، ويضيف ابن كثير تفسيره لما في الآية: كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس، لأنهم كانوا يعوذون بنا، اي إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها، كما كان عادة العرب في جاهليتها، يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان، أن يصيبهم بشيء يسوؤهم كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم، " فَزَادُوهُمْ رَهَقًا "، وعن عكرمة: كان الجن يَفْرَقُونَ من الإنس كما يفرق الإنس منهم أو أشد، وكان الإنس إذا نزلوا واديا هرب الجن، فيقول سيد القوم: نعوذ بسيد أهل هذا الوادي، فقال الجن، نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم، فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون، فذلك قول الله " وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا".
فطوبى لمن تشبَّث بصيغ الاستعاذة بالله وحده لا شريك له، كما وردت في القرآن والسنة. ومن الصيغ المؤكدة كذلك في هذا الصدد: ما أخرج أحمد، عن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ المعوذتين فإنك لن تقرأ بمثلهما"، وروى مسلم وأحمد والترمذي والنسائي، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم يُرَ مثلهن قط: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ". وللتذكير ، من حديث رواه النسائي عن عقبة بن عامرن حول المعوذتين: " ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما"، ومزيدا في الفضل يكون من خلال جعل المعوذتين ( وفيهما توحيد الربوبية) مقترنتين بسورة الإخلاص التي كما في الحديث تعدل ثلث القرآن، وهذا موضوع مبحث سابق (وفيها توحيد الالوهية). ف " قل: قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء" (حديث عن عبد الله بن حبيب، رواه البخاري والترمذي والنسائي وأحمد، وقد حسنه الالباني)، ومعنى "تكفيك": قال القاري في المرقاة، قال الطيبي: اي تدفع عنك كل سوء، فمن زائدة في الإثبات على مذهب جماعة وعلى مذهب الجمهور أيضا، لأن يكفيك متضمنة للنفي. ويحتمل أن يكون المعنى: تغنيك ومن حيث الاستعاذة، عما سواها، ويؤكد ذلك المعنى ما من الحديث قبله عن عقبة: " لاستعاذ مستعيذ بمثلهما"، ولا يعني بالطبع، كما يلاحظ العلماء، أنه لا يقرأ غيرها من الآيات والأذكار الخاصة بحالات معينة أو التماسا للفضل من وجوه أخرى لها كذلك ولا محالة، فضائلها وثوابها
Comments